الثلاثاء، 16 يوليو 2013

وصايا..11

ردة الفعل البشرية أو الطبيعة البشرية عموما لا يمكن قياسها قياساً منطقيا ً وعقلانياً في الكثير من المواقف ولا يمكن توقعها أيضا خصوصا حين تصدر هذه الأفعال بعيدا عن السائد والمألوف والعرف الأخلاقي والتقليد العاطفي وليس المنطقي والعقلاني فحسب.
السلوك البشري يا صغيرتي لا يمكن التنبؤ به مهما أظهرت البشرية قدرتها  العالية على التصرف بشكل حضاري ومنظم وممنهج ومنطقي .
أحيانا يا صغيرتي تجدين أفعال العقل أشبه بأفعال الجنون وأفعال الجنون أشبه بأفعال العقل . ليست رياضيات يا حبيبتي ، لكن ذلك يحدث أحياناً .
إليك ِ هذه القصة القصيرة : كانت هناك شيخة عربية تعشق شيخا عربياً أكثر من عشق  قيس لناقة ليلى. ((انتهت القصة)) .
المغزى أن  شيخة أقدمت على فعل ٍ مجنون حتى التعقل وعاقل حتى الجنون  كذهابها لرؤية حبيبها وهي مصطحبة "بودي غارد" من  مدينة الخرطوم ليحميها منه؟ 
أمر غريب أليس كذلك .
برائي لهذا التصرف ما يبرره يا ابنتي فدعينا نبطل العجب وحينها ربما ستفهمين ما أعني بالجنون العقلاني .
 ريّان..  لماذا قامت بهذا الفعل ؟
 لماذا أحدثت هذا السلوك وهي الحبيبة التي من المفترض أن تهرع لحبيبها دون الحاجة لنقطة مراقبة أو جهاز مخابرات ؟ 
لماذا جنونها استخدم "عقله" وهو الذي كان يجب أن يغيّب العقل ؟
ما رأيك ؟
أنا أرى  أن ما جعلها تعقّل جنونها وتدعه محترسا متأهباً ليس لأنها شيخة عاقلة . على الإطلاق فهي مجنونة بلا شك .ليس عندي شك في ذلك . لكني أرى أن هذا الجنون لبس لباس العقل لأنه دخل من حيث يدري ولا يدري في نفق المحيط المرتبط بالعادات والتقاليد والأعراف والعيب والحرام وعليه لم يستطع أن يتجاوز عقل التقليد الديني والعادات الاجتماعية وأعراف الموروث وطبيعة الناقة العربية والجمل العربي .
ريّان .. لاحظي الأمر معقد لكنه يستحق الدراسة والتمعن . ففعل الشيخة  تجاوز الجنون كمصطلح يعني العبث والفوضى والعشوائية واللانظام وغير المخطط والمدروس والمتوقع  فأصبح جنونها المندفع لرؤية أحب الناس إليها في تلك اللحظة تحديداً جنوناً مبني على ترتيب مسبق ومنظم وعلى قواعد وأسس متصلة بتراث الشخص وبثقافته وبسيرته وأخلاقه وتربيته فأصبح عقل .
أبوك مولع بالنفس البشرية فهي قارة لم تكتشف بعد . انظري يا صغيرتي كيف اندفعت المجنونة لملاقاة حبيبها دون أن تستطيع  هزيمة إشارات عقلها المتيقظ أو طبيعة المكان والزمان والقوانين والأعراف الاجتماعية لهذا يا صغيرتي لهذا دلّها جنونها العاقل جداً أن تصطحب ملاكا حارسا "أسود اللون"  ليحميها من أحب الناس إليها ؟
شيء غريب ومتناقض لكنه جميل يا طفلتي أليس كذلك ؟ تلك هي النفس البشرية في قارتها التي نكتشف كل يوم جزء ضئيل  منها.
 صغيرتي صدقيني تلك المجنونة لا تعلم  لماذا فعلت ذلك ؟ وربما لن تخرجي منها بإجابة منطقية إن سألتها .
 فهي حتما لم تكن خائفة . وهي حتما لم تكن تخطط أن تستخدم العقل في مغامراتها العاطفية المحمومة والمجنونة ؟ لكنها في نفس الوقت كانت مبالية جداً وحذرة جدا ؟!! .
 ابنتي .. من الممكن أن أصدق أن الإنسان خلق اللغة كما يقول وايد ليخفي بين مفرداتها مشاعره ، ربما أصدق أنه فعل بالعقل ما فعله باللغة ليخفي بين أفكاره جنونه .
 لكن هل علىّ أن أصدق أن الإنسان بات يستخدم الجنون أيضا ليخفي تعقله ؟

ما رأيك يا ابنتي ؟

الاثنين، 15 يوليو 2013

وصايا..10

قال كافكا : " أن تكتب فهذا يعني أن تهجر معسكر القتلة "

ريّان أن تهجر معسكر القتلة هذا يعني أن تكون إنسان . أن تكون محبا للإنسان مهما كان وكيفما كان ، أعني مهما اختلف شكله ودينه وعقيدته وبيئته ، وأن تكون محبا للجمال وللطبيعة وأيضا لكل حي على هذه البسيطة حتى وإن كان هذا الحي نملة تجر قطعة سكر لتقف بكل كبرياء أمام الموت  .


ريّان قال منيف ذات مرة : أن يمتلئ رأسك بالأفكار والصور شيء وأن تسكب تلك الأفكار والصور التي تشكلت في رأسك على الورق شيء أخر . صدق منيف يا صغيرتي .

الكل يستطيع أن يكتب والكل يستطيع أن يدعي أنه كاتب لكن لاحظي كم من هذا الكل يستطيع أن يترجم أفكار عقله وصورها كما هي على الورق ؟

كم من هذا الكل يا صغيرتي قد خانه التعبير ودمّر المعنى الجميل الذي كان برأسه بعد أن دوّنه على الورق ؟

الكتابة يا ابنتي تشبه الفلسفة.. تشبه التفكير في طبيعة التفكير والتأمل في طبيعة التأمل والتدبر في طبيعة التدبر وتشبه رحلة البحث عن الحكمة وعن المدلول وعن الدقة .

الكتابة منطق يا ابنتي ومحاكاة عقلية وفلسفية تعتمد كما يعتمد علم المنطق على البرهان والاستدلال وعلى الحجج وعلى الواجب والمفروض وعلى السند الذي يدعم نتيجة الفكرة .

الكتابة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة الإنسان وبشخصيته وبثقافته ، فهي أناقة فكره و بهاء صورته وترجمان رؤيته .

لهذا لا تصدقي يا صغيرتي من يقول أن الكتابة مجرد حبر على ورق ،كلا يا صغيرتي  الكتابة إنسان يسير على الورق بلحمه وشحمه وبروحه وبأخلاقه وبخصائصه وبما يحمل من فرح وألم ينوء به صدره أو ينوء به المحيط من حوله .

صدقيني يا ابنتي الكتابة تعطي من يعطيها خلاصة فكره التميز والإبداع ، وتعطيه الجمال الذي تقوم عليه الطبيعة ، وتهبه السحر الذي يسكن في الرسم والموسيقى والقصيدة والمسرح .

صغيرتي .. لا أدري لماذا أحدثك عن الكتابة ؟ ربما لأن الكتابة تريد أن تتحدث إليك عن طريقي كما يتحدث خليل لخليلته وربما لأنها تريد أن تكشف لك أنها تملك مفاتيح الفيلسوف الحكيم كما تملك مفاتيح معتوه متعلم .

لا تصدقي جيرالد برينان يا صغيرتي الذي قال أكتب وأكتب وأكتب وستصبح كاتباً ليت الأمر بهذه السهولة حبيبتي فهذه المقولة تنفع كترياق لقارئ عليل وكتنفيس لقزم ضئيل ، فالكتابة مثل الطعام يا ابنتي  يجب أن يكون المرء منا جائعا كي يلتهمه ، ومثل قرص الإسبرين يجب أن ننتظر حتى نشعر بالألم أو الحاجة كي نتناوله .

ريّان .. دعيني أسالك : ما فائدة الكتابة إن كان من يكتب يملك فكراً ضيقاً ؟

حسناً.. لنقلب السؤال : ما رأيك بمن ينتعل حذاء ضيقا وهو يملك محل أحذية ؟

أو ما رأيك بمن يكتب ويغرد وحين تنظرين إليه لا تجدي رابطا بين ما كتب وبين ما فعل ؟

ما رأيك بـ الذي يشار إليه بالبنان ككاتب مرموق لكنه فعليا مدعي أو مغرور ولا يتعلم من دروس الإطفاء فيظل يكافح النار بالنار ؟

الكتابة ليست ثرثرة . ليست لعبة يا ابنتي .. نحن نكتب حين يكون بحوزتنا ما نقوله ، وإذا لم نجد ما نقول فالسكوت من ذهب وإلا أصبح الكاتب مثل الزوج المخدوع في زوجته مثل الذي لا يعرف أبداً ما يجري ويعتقد أنه يعرف فيظل يعتقد ويعتقد ويعتقد .

صغيرتي .. الكتابة انفتاح جرح ما .. هكذا  قالها كافكا ..

أن تكتب هذا يعني أنك بدأت تشعر وأن تشعر هذا يعني أنك بدأت تفهم وأن تفهم هذا يعني أنك إنسان قادر  على احتواء الجرح الذي انفتح وأن تحتوي هذا يعني أنك ستقدر  باسم الإنسانية في قلمك وفي عقلك وفي قلبك أن تجعل الجرح يبتسم .








الجمعة، 12 يوليو 2013

وصايا..9




صغيرتي .. لا أدري كم عمرك الآن  ولا أدري إن كنت ِ تعرفت ِ على أبولو إله الفنون والشعر والموسيقى ؟ ولا أدري أيضاً أن كنت ِ تعلقت مثلي بتلك الشخصيات الخرافية في قصائد الإغريقيين .
لا أدري إن كنت  لحقتِ أكثر من 200 إلها إغريقيا في ميثولوجيا رومانية خطفتك مثلي من الحقيقة إلى المستحيل .
ريّان .. لأبيك حكايات وقصص طويلة مع المستحيل .
 مثلاً ذهبت ذات مرة للصيد مع أرتميس آلهة الصيد وحامية الحيوانات والبشر فرجعنا بصيد ٍ وفير من المعاجز والأساطير.
 ومرة ذهبت للنزهة مع بوسيدون إله البحار فاصطدت المحيط والأعاصير . ومرة شربت مع ديونيسيوس إله الخمر حتى تصورت أني إلهاً أولمبيا أصيلاً فتجرأت وقبّلت هيرا آلهة الزواج دون أن أبالي لغضب زيوس .
الأساطير كثيرة في حياتي يا صغيرتي .. وهي من تسليني في وحدتي ، نعم يا صغيرتي في وحدتي ، فالوحدة رفيقة عمري مهما تزاحم الناس من حولي ، ربما الأوقات التي أقضيها الآن معك ومع أخيك ومع أمك تخرجني من هذه العزلة قليلا ، لكني سأكذب عليك إن قلت أن العزلة ذهبت وأن الوحدة التي أشعر بها رحلت .
 هناك سبب بالتأكيد ، وفي الحقيقة يا صغيرتي ربما يكون السبب أيضا أسطوريا ً فكما غُصبت افروديت آلهة الحب والجمال من الزواج من إله النار هيفيستوس كانت هناك امرأة في حياتي غصبها القدر أن تشارك افردويت إلقاء كل جمالها وحبها  في ناري .
تلك المرأة يا صغيرتي رغم القهر الذي أذاقها إياه إله النار حافظت على الحب وعلى الجمال وعلى الخير الذي جعلها فيما بعد تحاول أن تعيد صياغة بطل النار في قصة ٍأخرى يكون فيها بطلا مائيا يتحدى ميثولوجيا الإغريق وآلهتهم ، ويكون كهيكتور قائدا طروادياً لا يعرف الخوف ولا التخاذل يروض الخرافة ويأسر الخيال .
هذا الهيكتور كان أنا يا صغيرتي ، وتلك المرأة كانت اسطورة  تدعى "شيخة"  استطاعت أن تروض أول العظماء التسعة في التاريخ اليوناني وتسرق روحه وتطفئ ناره وتجعله نبيلاً شجاعاً فارسا لا يشق له غبار .
تصوري يا صغيرتي هذا الهيكتور الذي أصبحت عليه فيما بعد لم يعد يهتم بالحرب المدمرة التي نشأت بسبب خطف هيلين أجمل نساء الأرض لم يعد يهتم إلا أن يكون قريبا من اسطورته حتى وهو يموت و هي تموت يا صغيرتي حتى وهو مطعون برمح ٍ يدحرجه ناحية عزرائيل ببطء ٍ لم يتوسل ولم يبك ولم يطلب كما جاء في الميثولوجيا أن لا يمثل آخيل بجثته على العكس تماما في اللحظة الأخيرة من عمره طلب من آخيل أن يرسم برمحه صورتها من دم قلبه .
ألم أقل لك يا صغيرتي الأساطير كثيرة في حياتي .. وستكون كثيرة في حياتك ربّما ..لا أدري ، لكن عليك أن تعلمي يا صغيرتي أن هناك قصصا واقعية نحن ملزمون أن نعيشها ونحياها وهناك قصصا أخرى نحن ملزمون أيضا أن نعيشها ونحياها لكن ليس على أرض الواقع وإنما في عوالم أخرى ميتافيزيقية وسريالية وخيالية وسماوية وفي مثل هذه العوالم أنا كنت متعلق ولا زلت بامرأة ٍ علّمتني الفن والفلسفة والجمال والغموض وتمجيد حياة الروح .
في هذه العوالم أنا تعرّفت على أفلاطون . تعرفت ِ عليه يا صغيرتي بالطبع أليس كذلك ؟ وتعرفت على المشاكل التي آثارها بسبب الفن وعلى فرضياته التي تقول أنه محاكاة للذة وضياع الحقيقة .
 لم استسغ ما قاله في تلك العوالم يا صغيرتي ، تقاتلت معه وتقاتلت مع معلمه المتشدد الأخلاقي وتقاتلت مع كل الفلاسفة والمحدثين الذين حاولوا محاربة الاندفاع الوجداني أو الحماسي ، ربما لم أكن مصيباً يا صغيرتي بالمنطق العقلي لكني كنت مصيبا بالمنطق القلبي لأني لم أكن أرى في تلك العوالم ما يجعلني متمسكا بالعقلانية لحد ٍ يجعلني أفرط بامرأة ٍ طرحت كل القيم المادية على الأرض ورفعت قيم الروح .
هل تفهمين جنون بعض الأساطير التي تتحدث عن حب ٍ يعيش فوق الحب أعني عن سماء ٍ تعيش فوق السماء  عن بحر ٍ يعيش فوق البحر ، عن مفاهيم تعيش فوق المفاهيم ، عن عشق يعيش فوق العشق عن مستحيل يعيش فوق المستحيل .
سأحاول أن أبسط لك المسألة : مثلا أنا لست بحاجة ٍ أن أثبت  لشيخة أني أحب أمّك ولست بحاجة ٍ أن أثبت لأمك أني أحب شيخة ولست بحاجة أن أثبت لك أني أحبكم جميعاً، لكن أنا أحتاج أن أثبت المستحيل!
 أعني كيف أثبت لك أن هناك حب أخر فوق هذا الحب في قلبي تدفعه قوة لا عقلانية قوة خرافية كقوة هيراكليس من أجل أن يبقى قلبي حيا ومنقسما بين مستحيل ومعقول بين واقع وخيال بين يقظة ومنام .
مستحيل مع  امرأة أحاكيها و ألحقها وأعشقها وأتنفسها كما قال سقراط مثل الفنان دون أن أعي ما أفعل وما أقول ومعقول مع امرأة حقيقية أحبها وأحترمها لكني أعي معها ما أفعل وما أقول .
هل تفهمين هذا المأزق النفسي والعاطفي ؟ أمر معقد ومركب يا صغيرتي 
 أدرك أنك في هذا السن لن تفهمي ما أحاول قوله  وأدرك تماماً أنني أهذي على طريقة الفلاسفة وأتنقل في سردي بين الوضوح والغموض وبين الجملة المفيدة والخبر المقطوع ، لكني أدرك أيضاً أنك حين ستعودي لقراءة وصاياي ومذكراتي وكتاباتي وحين ستفتشين في رسائلي فيما بعد ستجدين أن هناك امرأة تكررت في معظم نصوصي مثل الطب الذي يدرس الأجساد .
هذه المرأة يا صغيرتي هي أفروديت هي آلهة جمالي وحبي ، هي أفضل أنواع الهوس ، هي خط استوائي النفسي والعقلي والعاطفي هي إلهة إغريقية في شكل إنسان وهي البشرية في شكل إله ، هي يا صغيرتي الروح التي قادت والدك أن يرتفع فوق مستوى الرجل العادي وأن يصبح كزعيم الإلهة زيوس روح خالدة يصعب استنساخها .
ريّان .. إن عشت واقعا ً ذات يوم وعاش مع واقعك شكلا أخر من الظل أو الخيال أو المستحيل ظل على مر السنين رافضا الرحيل أو الموت فأعلمي أن ذلك الشكل ليس متعة مؤقتة وليس عابر سبيل وليس قصة إغريقية ، أعلمي أن ذلك الشكل -لن أتنبأ بملامحه لأنه ربما يكون رجلا أو جبلا – سيكون الخطاب الإلهي الحقيقي الموجه لروحك .
صغيرتي الروح تعيش أحياناً في ضفة والجسد يعيش في ضفة ٍ أخرى ، أتمنى أن لا يحدث هذا معك . أتمنى أن لا تعيشي عذاب الفصل . أتمنى أن تعيشي بهيكل ٍ موحد وأن لا تعيشي كأبيك مثل أسواق التجزئة .
صغيرتي " ستجدين اسطورتي" في العديد من نصوصي تحمل اسم " شيخة" مرّي عليها بسلام ومهما شاهدت من كتابات غاضبة أو ساخطة لا تكترثي فإن ذلك السخط والغضب لم يكن إلا احتجاج الهيكل على واقع الفصل .

الخميس، 11 يوليو 2013

وصايا..8



هل يمكن أن تنتهي السماء بسكتة قلبية ؟ هل يمكن أن تصاب الحوريات بالسل ويصاب الولدان بفقر الدم ؟ هل يمكن أن يغّير بركان وجه الجنة ؟

دعينا نفرض أن ذلك ممكن يا صغيرتي ، ولكن كيف ؟

لن أحتاج لإجابة مطولة يا بنيّتي يكفي أن نرمي بداخلها بشر ٍ يملك خاصية أرضيّة كـ"الغل" ، فالغل وحده كفيل يا ابنتي بأن يشوه أجمل صورة قد ترسمها مخيلتك عن أرض الخلود .

في البدء يا حبيبتي كانت الأرض عذراء ، رائعة ، زكية ، نقية ، صافية ، طيبة ، حتى قام الإنسان الأول بالغل ومن ثم القتل.

تأذت السماء من دم الإنسان الأول الصارخ تحت الأرض فسمّتنا أمة " قايين" بعد أن لعنته في الأرض ومنعته قوتها وأمانها . منذ ذلك التاريخ يا حبيبتي ونحن وقايين سواء .

بالطبع يا ريّان كان بإمكان قايين أن يعود للسماء ، أن يعتذر ، يندم، يتوب، أن يرحمنا من خطيئته التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، أن يريحنا من حلقات الدم التي تعجز أمامها كل مسلسلات داركولا وفرانكنشتاين وزومبي.

لكنه لم يعد يا ابنتي، لم يتب . لم يعتذر . مثل صحراء التيه ظل تائها في الأرض تلاحقه اللعنة . وتلاحقنا .

تاريخنا معظمه مكرر يا ابنتي فكل يوم نقتل لنا أخ ونجرح لنا شيخ وندفن دون أن تهتز فينا شعرة مئذنة مسجد ونطمر دون أن يؤنبنا ضمير ساقية كنيسة ونقلع دون أن ننظر للسماء شتلة أخلاق زرعها موسى .

انظر حولي الآن يا ابنتي .. فأرى يوسف في الجب ، وأراه في السجن ، وأراه مصلوبا على صدر ِ زليخة ، وأراه مطرودا من القبيلة ، وأراه مطلوبا للعدالة.

أرى الآداب والقيم والقواعد التي تعتبر صراطاً مستقيماً تصبح إزميلاً أعوج ، أرى القانون الذي وصل إلينا عن طريق قطار "النبوءة" يخرج عن مسار مكّة ، أرى الميثاق الذي أطل علينا من بوابات القدس يخرج هاربا من الباب الخلفي للمسجد الأقصى قبل أن تعتقله إسرائيل بتهمة "الإرهاب" .

ليس هناك تطور ضخم في جنسنا البشري يا ريّان- حتى هذه اللحظة- على مستوى الأخلاق والسلوك كما تطورونا في التكنولوجيا ، لسنا روبوتات بطبيعة الحال ولسنا آلات ولسنا هواتف ذكيّة .

التكنولوجيا لا تعرف الأخلاق يا ابنتي ولا تفهم في المشاعر، لا تعرف ماذا تعني رابطة الدم، ماذا يعني الميثاق الأخلاقي ، ماذا يعني الالتزام والثقة والاحترام والكرامة ، ماذا يعني الحب ؟ ماذا يعني الله ؟

لكنها –حتى أكون منصفاً –يا صغيرتي لا تتخطى القواعد والأوامر ولا تتجاوز الخطوط الحمر كما نفعل . وإن فعلت فحتماً سنكون نحن السبب .

هنا يا صغيرتي نحن نعيش قصة نيتشه في " هكذا تكلم زرادشت" حتى وإن لم نقلها صراحة ، لكننا نعيش فصول قصته وندعو بشكل مباشر أو غير مباشر أن تموت الآلهة جميعها .

أن تنزل الجنة من السماء ، أن تهرب النار من قصص يوم القيامة . أن يتخلى ميكال عن المطر ، أن يستقيل عزرائيل من منصبه ، أن يكف جبرائيل عن إخبار الرسل بما يجب وبما لا يجب .

صغيرتي على مسؤوليتي أنا أتوجه بسؤالي للمدعين وللمتأسلمين ولمن يتمنون الشهادة ليل نهار الآتي :

هل ستتوجهون للسماء لو لم تكن هناك "جهنم" ؟ لو لم يكن هناك غواش وزبانية وسقر ؟

هل كنتم ستعبدون الله حقاً لو لم تكن هناك ناراً تتلظى فيها جلودكم ، هل كنتم ستتبعونه لو لم يكن هناك خازن للنار اسمه "مالك" ؟

حسناً سأطرح السؤال بطريقة ٍ أخرى أكثر لطافة .

هل كنتم ستتوجهون للسماء لو لم يكن هناك لحم طير مما تشتهون ؟ لو لم تكن هناك حوريات لم يطمثهن قبلكم إنس ولا جان؟ وقطوف وذهب وسندس وإستبرق وجنى الجنتان دان ؟

صدقيني يا ابنتي لولا جهنّم لأريت ِ عددهم في المساجد و الكنائس و المعابد أقل من عدد المصطفين على شباك مسرحية لعادل إمام .

لن يفكروا في عدن يا صغيرتي لولا العقاب . لن يشتهوها لولا الجزاء ، لن يشتاقوا إليها لولا أنهم يعرفون أن هناك صراطاً قد يهوي بأقدامهم إلى الحطمة .

هل فهمت ِ ما أعني .. ماذا سيحدث في هؤلاء لو كان هناك إلهاً ولم تكن هناك جنة ولا نار ؟ هل كانوا سيعبدوه حقاً كما يدعون ؟

الآن يا صغيرتي الكل يقول أنا مع الله ، من هو مع الله فعلا ً ومن يكون الله معه فعلا ً ؟

ابنتي الناس هنا تعبد الله خوفاً لا محبة ، رعباً لا طمأنينة ، هنا تتجسد عبادة العبيد بكل صورها أما عبادة الأحرار يا ابنتي فلا يعرفها إلا المنحدر من سلالة السماء الذي يتوجه إلى السماء ليس من أجل جنتها ولا خمرها ولبنها ولا من أجل قاصرات الطرف ولا الولدان ، الذي يتوجه إلى السماء يا ابنتي لأن هناك إلهاً يستحق أن يشكر وأن يعبد دون مقابل. 

أما عبادة المصلحة والتقايض والتبادل فلا تعنيني في شيء

أتحدث عن القناعة يا ابنتي ، عن المبدأ ، فالإنسان مستعد أن يموت من أجل مبدأ آمن به دون أن يقدم تنازلات أو يطلب ضمانات مالية أو يفكر حتى في أسرته فلماذا لا يموت من أجل الله حتى لو لم تكن هناك جنة .

لماذا لا يعبده دون أن تكون هناك ناراً ستلتهمه إن لم يفعل ؟ لماذا لا يطلبه دون أن يكون محتاجاً للمساعدة ، لماذا لا يتوجه إليه دون أن يكون محتاجا لمرشد أو وصي ؟ لماذا لا يتعرف عليه دون الحاجة للكتب الدينية وفتاوى المشايخ ؟ هل التعرف إلى الله صعب لهذه الدرجة ؟ أم أننا فعلا نحتاج للقرضاوي والعريفي وللسيستاني وللحكيم حتى نتعرف عليه ؟

اخشي يا ابنتي على العبيد أن ينهاروا قبل أن يتعرفوا على الله تماماً كما الذي ظن أنه تخطاهم وأصبح حراً فهاجم حصاناً ورقص عارياً وظن نفسه نابليون والاسكندر المقدوني ويسوع وفيكتور الملك .

وسينهاروا يا صغيرتي ..سينهاروا

مسألة وقت .