الثلاثاء، 31 مارس 2015

الفكرة روح والكلمة جسد

لنعتبر أن الفكرة روح ، والكلمة جسد،  والمعنى عقل ، ولنتصور الآن أن هذه الروح عاشت في جسدٍ آيل للسقوط وفي عقل ٍ يبصر بعينٍ واحدة ؟ ها .. كيف ستعيش هذه الروح ؟ وكيف ستعبّر عن نفسها وكيف ستناقش أو ستدلل على صحة ما تحمل وجسدها مريض وعقلها أعمى .

جمال الشيء كل شيء يكمن في نسيجه المتكامل والمتناغم وفي بنيانه المتجانس المتين القوي وفي الكتابة من المعيب حقاً أن نتعب أنفسنا لساعاتٍ طويلة ونستنزف قدراتنا الذهنية وعضلاتنا اللغوية والنحوية لنتمخض كالجبل ثم نلد فأراً . فإما أن تطير الأفكار على الصفحات والألوان على اللوحات والألحان في الموسيقى حول مصباح قدرتنا الإبداعية والبلاغية والفنية والحسية كما لو أنها فراشة وإما أن نكفّ عن إحراق الفراشة  .

الأفكار جميعها تستحق أن تُكتب والألحان جميعها تستحق أن تُسمع والألوان جميعها تستحق أن تُرسم هذا صحيح ولكن لن يعيش من تلك الأفكار والموسيقى واللوحات غير تلك التي تمكنا من حمايتها من الموت والانطفاء بالروح الجميلة والجسد السليم والعقل السوي أعني جمال الفكرة وبلاغة الكلمة وقوة المعنى.

في الكتابة هناك من يؤمن بالفكرة الأفلاطونية وبالمعنى الأفلاطوني وهناك من يؤمن بالفكرة الديكارتية وبالمعنى الديكارتي وهناك من يعيش ويكتب ويرسم بين أفلاطون وديكارت وهناك من يغرد أيضاً خارج السرب مستقلا بذاته وبإبداعه بعد أن اكتشف حقيقة ما يكون وما يملك حين تخلى عن استعارة فلسفة الآخرين واسمائهم وأساليبهم وأصبح نفسه .

الإبداع هو الانقلاب على النمطية في طرح الفكرة وطرق عرضها ، هو القدرة على التجديد والتحديث والاختراع والابتكار ، وفي الكتابة هو الإتيان بلغةٍ تصيبنا كلماتها بالدهشة ومعانيها بالقشعريرة .

إذا كان الرسام بمقدوره أن يجعل الألوان تنطق فالكاتب يستطيع أن يجعل الأفكار تتجسد وإذا كان الموسيقي يستطيع أن يجعل اللحن يرقص فاللغة تستطيع أن تجعل القمر مسرحاً يشهد على سحر بيانها،  وإذا كان أحدكم سيفضل أن ينتصر التعبير بالرسم أو التعبير بالموسيقى على التعبير الأدبي فإني سأفضّل أن ينتصر الاحساس. سأفضل أن ينتصر التعبير الذي سيضع سحره بداخلنا ويجعلنا نعيش ولو للحظات في توهج وانعتاق وسعادة على لوحة أو على ورقة أو على معزوفة لا مثيل لها.


الأحد، 29 مارس 2015

رعيةٌ واحدة وراعٍ واحد

الحب ليس رجلاً يحب تصنيف المنازل قبل أن يدخلها وبالطبع هو ليس امرأة تهوى تخمين الأسقف التي ستقع ، الحب لا يشغل باله بالتصنيفات والتقسيمات ولا يهمه أصلا باب المنزل الذي يقف أمامه إن كان طيّباً أم شريراً فهو يفتح  الباب ويدخل ولا يهمه أطلاقاً قبل أن يفتح الباب أن يخمن أو يفكر أي سقفٍ سيثبت وأي سقفٍ سيقع . 

الحب عاصفة سحرية تجعل فيما بعد من رياح الشر عبئاً يجب التخلص منه أمام كمية الريح الطيبة التي هبت بداخلنا .
الحب شجرة نحن أغصانها ولولا الشجرة لما ثبتت الأغصان ولا نمت ولا أتت بثمرٍ كثير .

 ووحده الغصن الذي قرر أن يترك الشجرة من يقع ووحده من يجف ووحده من يرمى في النار ليحترق .

الحب مدرسة وليس مدّرساً  يرغمنا على الحفظ والفهم كما يتوهم البعض هو مدرسة نحضر في فصولها كل حصص الأخلاق والعطاء والتضحية والفضيلة لننجح في الوصول بإنسانيتنا إلى مرتبةٍ بشرية أفضل وأجمل من التي كنا عليها .

 المدرسة لا تجبرنا على النجاح هي فقط تحثنا عليه ولو جبرتنا لما سقط أحد فالخيار كل الخيار في النجاح أو السقوط في أيدينا فلنا أن نسلك ما نشاء من ردهات ونختار ما نشاء من فصول ، وفي الحالتين سواء نجحنا في الردهات أم سقطنا في الصفوف ستظل المدرسة مستعدة لاستقبالنا من جديد مهما كانت نتائجنا ستظل تستقبلنا حتى ولو لم نتخرج منها أبداً .

الحب لا يستهدف بداخلنا البذرة الجيدة والخيّرة كما يتوهم البعض فالحب لم يأت ِ ليستهدف الأرض الطيبة أصلاً فأي عظمة في أن يسقي الحب أرضاً أشجارها تثمر المحبة .

 عظمة الحب تكمن في استصلاحه للأراضي التي تحمل بين تربتها بذر سيء وخبيث نمى وكبر وأثمر الشر . عظمته تتجلى حين يسقيها من ماء فضيلته ويراها تنبت أمامه كالعمل الصالح. 

الحب ليس رجلاً يحب سرقة المنازل وليس امرأة تهوى جمع الذهب ، هو ذلك الشيء الذي يأتي لكي يمنحنا حياة أفضل ونظرة أشمل وتصالح وتسامح مع النفس ومع الآخرين.  بالتأكيد لن يستطيع سارقاً أن يمنحنا مثل تلك الأشياء ولو سرق الكون بأكمله ولن يستطيع ذهباً أن يشتريه لنا ولو شرى المجرة بأسرها . 

الحب ملاك وربما يحلو للبعض أن يشبه هذا الملاك   بـ"اللص" الذي يسرق كل ما نملك دون أن نشعر ونحن نيام ، أما أنا فلست من هؤلاء الناس ولست مع تشبيه الحب  بـ "السارق " لأن الحب ليس سارقا ً ولا لصاً على الإطلاق بل هو أكثر شرفاً من أشراف السماء وأطهر من صفحات الماء .

الحب دائما يأتي من الأبواب فهو لا يقفز من الشبابيك والنوافذ كما يتوهم البعض ولا يلبس قفازات تخفي آثار جريمته فإن كان سارقاً فهو سارق أبله لأن آثاره وبصماته موزعة في كل مكان ومن السهل القبض على سارقٍ أحمقٍ مثل هذا ، كما أنه أيضاً لا يستخدم سلالم الخدم ولا يتسلل من فتحات التهوية ، حتى تلك التي يصعب فتحها أعني الأبواب المغلقة بإحكام يستطيع تجاوزها بمنتهى السهولة بواسطة مفتاحه السحري ( السمو والجمال)  . 

نعم ليس الحب من يسرقنا ويتسلل إلى منازلنا عبر الشبابيك والنوافذ وسلالم الخدم بل أفراد العصابات ، وليس الحب من يطعننا من الخلف بل الخونة ، وليس الحب من يرتدي قناعاً بل زعماء المافيا ، فالحب حين يأتي منازل القلوب .. يأتي كالمعجزات وأمام أعين الكل يقول للكل : (هذا أنا )  يأتي كالانفجار ليعلن أمام السكّان أنه حضر . 

ومتى خرج من منازل القلوب خرج كما يخرج الأنبياء فلا تتبعه من الأرواح والأنفس إلا تلك التي انصتت لصوته وآمنت بدعوته أما تلك الأرواح والأنفس التي لم تنصت ولم تؤمن فبالتأكيد ستظنه غريباً وستنكر ما حمل من تغيير وستراه سارقاً جاء لينهبها ويسلبها .

هل يدعى سارقاً من أتى في الليالي المظلمة التي ليس فيها بقعة ضوء حاملا شمعته أمام الملأ قائلاً كما قال يسوع : ( أنا هو) أنا هو نور العالم   .

هل يسمى لصاً من أضاء الناس في ظلامهم ليقول لهم : كونوا مثل هذه الشمعة التي تريد من نوركم أن يشتعل ويبدد ظلمة الأنفس التي أرهقها الذئب وحكايته التي لا تنتهي مع القرية ومجتمع الأغنام.

يقول لهم: أنا الراعي، لا تخافوا ، يقول لهم كما قال يسوع :  اسمعوا صوتي :  رعيةٌ واحدة وراعٍ واحد .


الثلاثاء، 24 مارس 2015

كان انفجارك ثم كانت الكائنات



النار اشتعلت في كتبي ، الكواكب سقطت على جسدي ، الشمس احترقت على كبدي ، ما هذا ؟
بنون وبالقلم وما يسطرون أني لم أعد أعرف حجم المسافة التي باتت تفصلني عن الجنون ، لم أعد أعرف بأي سلطان ٍ بعت حريتي واشتريت السجون .

ماذا يستطيع أن يقول الحب عن الأشجار التي فتنتها الغصون؟ أو تقول اللهفة عن المسافة بين الحقيقة والظنون ؟ كل شيء قبل عينك كان له معنى وكان له مغزى وكان له سند وكان له متون.

الآن .. أي طريق بعد عينك ستعشق دروبي وأي عمل صالح بعد قلبك ستتبعه عيوبي وبعدك كل هذا البحر سمكة لا تعرف السباحة وكل هذه الأرض يرقة لا تعرف كيف تتحول إلى فراشة . أما أنا فلا زلت حتى الآن حشاشة تكابد كل هذه التعاسة .

آهٍ يا سمائي يا سماء الحدائق ، يا قديمة مثل الأكاذيب والحقائق ، يا حريقتي يا شمس الصيف ويا برد الشتاء ،ٍ يا حربي يا حرب القيامة والقبور . ماذا أقول ..؟! طارت الأرض مثل ريش النسور وسقطت السماء مثل عش الطيور وأنا في مكاني لا زلت أدور وأدور والحرب في كل مكان تشتعل وترتفع وتسقط من فوق الجسور والصخور والصدور وأنا ..أنا لا زلت أنتظر سلاما يأتيني من ربّة الورد على هيئة عطور ومن ربّة الحس على هيئة شعور .

آه ٍ أيتها العافية أنا المبتلى .. أيتها الرحمة فلتكن مشيئتك على بلائي كمشيئة الحرف على هذي السطور.

آهٍ ايتها النار الحرب في سوريا وفي اليمن وفي العراق لكن الموتى يتساقطون تباعاً في دمي والشهداء يلفظون الشهادة على فمي .

كيف أقيس مساحة هذه الحرب في صدري وصدري يموت ألف مرة مثل المدنيين والجنود ويحترق ألف مرة بعيدا عن نار إبراهيم التي ذكاها النمرود ، لا صحف نفعتني أمام عينك لا توراة لا إنجيل ولا تلمود .

آهٍ يا اضطراب الشعر وجنون الموسيقى وغضب الريح على طموح الحديقة ، آهٍ يا قلبي الذي عاش على نصل السكاكين ودمي الذي طار منذ أن سكنت ِ الشرايين ، آهٍ يا عقلي الذي ضل الطريق وضل الرشاد ، آهٍ يا قلبي المؤمن بعد عينها قل لي بالله  قل لي : هل أعلنت الإلحاد ؟ كنت نبياً موعوداً لكنك خالفت الميعاد ورحت تنشر بين العالمين أن الملقى على بساط الرمل والمزروع في بستان السماء بعض سحر العين التي حسبتها شمس وحسبتها سواد.

آهٍ أيتها الصحراء خيمتي باتت تخاف من الأوتاد ، كل ناقة ٍ أحسبها مدفع كل بعرة ٍ أحسبها زناد، آهٍ يا جهاتي بت أخاف من الأبعاد كل عينٍ  أحسبها وحي وكل نظرة أحسبه عباد .

عضّي على صحرائي بـ شفتيك الماء عضّي فأنا حين تفعليها أرفع جميع واحاتي مستقبلا مواسم المطر قائلا : حي على الجهاد ، والجهات حين تفعليها تصبح في أبعادي مثل أبعاد كونك الفؤاد .

عضي على شفتيك عضي ودعي هذياني يهرطق قائلاً : في البدء ِ كان حرفك ثم كانت الكلمات ، في البدء ِ كانت قصيدتك ثم كانت المفردات ، في البدء كان انفجارك ثم كانت الكائنات.

الأحد، 22 مارس 2015

أيامك جنة يا أمي



أبنك الذي لم يعش الدنيا من أجل راحة ولم يتركها من أجل مال ، أبنك الذي ظل مثل الغزال يجري في الغابات الواسعة والحقول الواسعة وخلفه تجري عشرات النبال ،  أبنك الذي لا يزال يرى كل عين ٍ غير عينك بدعة وكل يمين ٍ غير يمينك شمال .

أبنك هذا .. ( أنا) كل نوره دونك ظلمة يا أم النور يا أم الظلال .

كل الأيام مثل التمثال إلا أيامك وكل اللحظات مثل الزوال إلا لحظاتك وكل امرأة أحببتها كل امرأة دربتني على الخيال وعلى الجمال كنت أراها أنت ِيا حبيبة السماء ويا حبيبة الهلال . 

طالما الشمس شمسك تتنفس والقمر قمرك يتنفس والصبح صبحك يتنفس فأنا لا أزال بخير  والأشعار لا زالت بخير والحدائق لا زالت بخير والطيور لا زالت بخير والأشجار لا زالت بخير . طالما أنت ِ ترفعين ذراعك إلى السماء من أجلي فأن أجلي سيموت ضاحكا ً وهو يتذكر بيته القروي ودكان الحارة وحماقات شيخنا ذاك هل تذكرين شيخنا  الأعور الدجال .

طالما بسمتك تتنفس فإني قنينة عطر وشلال شعر ، طالما وجهك يضحك فإني بستان زهر ودر بحر.
أبنك الذي نسى أو تظنيه نسى لم ينسى أن يقول لك كم يحبك بحجم السماء ولكنه كان ينتظر سماء ً أخرى تفهم مشاعر يده وكوناً أخر يفهم إحساس شرايينه وبرجاً أخر يتحدى برج العذراء حتى يقف على قمته صارخا :  أخيرا ً وجدت حرفاً يتهجى طيبة أمي ولغة تسافر مثلها في دمي  .

لم أجد يا أمي .. ليس هناك حرف بقامة طيبتك ، ليس هناك معنى بطول روحك ، ليس هناك في الأبجدية أي شيء يستطيع أن يصف وجهك الشمس وجبينك القمر .

أيامي بدونك كالكتب القديمة التي تحكي قصة راعي ظل يرعى حزنه وحيداً فوق جبل ، كان سيقتله حزنه لولا أنك كل ليلة ٍ في المنام ِالجبلي تأتيه من رحم الكتب المقدسة كالمعجزات لتخبريه أنه سيصبح أكبر من الإمكان وأقوى من عضلات البشر وأنه سيصبح عظيم الشأن وسيكون فوق هذا الشجر وأن حزنه الذي رعاه في قمة الجبل سيصبح نسراً يملك السماء منفرداً  جناحه السحاب وعينه المطر .

أيامك جنة يا أمي