الأحد، 30 يونيو 2013

وصايا..7







صغيرتي .. هل نحن أحرار ؟ هل نستخدم مفردة "الحرية" الضخمة المعنى على أرض الواقع كما نستخدمها على أرض الورق ؟ هل نمارس حرياتنا العقائدية والثقافية والسياسية فعلاً كما نشاء دون قيود ؟

لا أدري بطبيعة الحال عنكم ولا عن زمنكم إن كان قد أعطى قيمة"الحرية" مفهومها الحقيقي خارج الاستعارات والدعايات الانتخابية وكذب الحكومات عن أن حرية الفرد مكفولة بحسب الدساتير والتشريعات والقوانين التي يتغنون بها .

لكني أعلم عنّا نحن يا صغيرتي .. أعلم أن الحرية التي نمارسها في العالم العربي تختلف تماماً عن تلك الموجودة في الكتب والدساتير والتفاسير . أعلم أننا نمارس حرياتنا تحت ضغط الحكومة وقبضة القبيلة وسلاح العادة ولكمات التقليد وركلات جهاز المخابرات .

أعلم أن القيود التي على الحرية أن تتخلص منها لتكون " حرة" لا زالت في أيدينا ، أن الأغلال التي يجب أن تكسرها "الحرية" لأنها كبّلت طاقات الإنسان لا زالت في أيدينا ، أن العبودية التي ترفضها " الحرية" لا زالت تسير حافية في شوارعنا ، أن المسار الثقافي والسياسي والعقائدي الذي يجب أن يتحدد وفق حرياتنا الشخصية لا زال يهرول وفق مسار الحكومة وينمو ويكبر ويزدهر تحت عين وسمع وزراء الإعلام والثقافة في شرق المتوسط.

أعلم أن "الحرية" التي خلقت لتنحر الإجبار والإكراه والفرض والوصاية والاستعباد لا زالت تعمل في بلادنا الشرق أوسطية عمل سالومي بــــــ رأس يحيى .

إيمانويل كانت .. هذا اسم فيلسوف يا صغيرتي تحدّث كثيراً عن الحريات الموجبة والسالبة وعن الحق الطبيعي للإنسان والمطلق .

المسكين ما كان يعرف أن هناك بقعة في الخريطة الكروية لا تعرف أي معنى للموجب وللسالب وأي معنى لإبداء الرأي أو اختيار مكان أو تحديد مصير .

المسكين ما كان يعرف أن الإنسان في هذه البقعة لا يستطيع أن يرفع أي شعار وأي معنى ، ما كان يعرف أننا في هذه البقعة لا نستطيع الانتخاب ولا الانتداب ولا نستطيع تعيين حياتنا كما نشاء ولا انتخاب آمالنا كما نريد .

المسكين يا صغيرتي ما كان يعرف أننا لا نستطيع التحرك ضمن قوانين الطبيعة حتى نستطيع التحرك ضمن قوانين المشيئة والإرادة ، ما كان يعرف أننا لا نستطيع التحرر من تبعيتنا للآخرين حتى نستطيع أن نتبع أنفسنا ، ما كان يعرف أننا لا نستطيع أن نكف عن استعارة أصابع الآخرين حتى نستطيع أن نكتب بأصابعنا .

المسكين ما كان يعرف أن عبارة " لا أحد يستطيع إلزامي بما يريد " ليس لها مكان في بقعتنا ، فهنا الرعاة والأوصياء والولاة والذين نصّبوا أنفسهم مشايخاً عند الله يستطيعون أن يلزمونا بما نريد وبما لا نريد .

هنا يا صغيرتي ، نحن نفعل ما لا نشاء ، ونؤمن بما لا نؤمن ، ونكفر بما لا نكفر ، ونعتقد بما لا نعتقد ، ونعترض على شيء نحن في أمس الحاجة إليه .

نحن هنا يا حبيبتي لا نبحث عن سعادتنا ولا عن حريتنا ، نحن هنا نبحث عن سعادتهم وحريتهم وعن حقهم في البقاء مكّرمين ومنعمين فوق جثثنا حتى يوم القيامة وإن تذمرنا خرج علينا الحاكم بأمر الله قائلا : الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن" .

نحن هنا يا صغيرتي لا نؤمن كثيرا بترهات جون سيتوارت ميل الذي قال : الإنسانية يجب أن تتدخل في الحريات فقط حماية للنفس ))

اخبريه يا ابنتي أن الإنسانية هنا معدومة والحريّات معدومة .

اخبريه أن الحيوانية هي من تتدخل لتحديد ما هو الأفضل وما هو الأنفع وأن الإنسانية التي قال أنها يجب أن تحمي المجتمع من الحريات الضارة ليس لها وجود هنا ففي بقعتنا أصلاً لا يعيش إلا الضار ، أما المجتمع الإنساني الحضاري الذي يتحدث عنه ليس موجودا ً في الأسفل هو في الأعلى فقط -عزيزي جون- هو في الأعلى فقط حيث شرفات القصور حيث التحرر من الأديان والتحرر من البنيات الاجتماعية غير المتطورة مثلنا .


في زمنكم يا ابنتي ، تشبثي بحريتك ، لا تتنازلي عنها إطلاقاً ، لا تمنحي السياسي فرصة كي يسلبها منك ، لا تجعلي المتطفل على الإعلام وعلى الثقافة أن يفعل ، فالكل يطمح أن يكون حراً ولو بالمال، وأريد لطموحك أن يكون حراً بلا مال ، أريده أن يكون حراً بالآمال رغم أنف الإكراه والوصاية والقسر ، فأرجوك أرجوك يا حبيبتي لا تدعي الإكراه يقترب منك أو يخيف في "حريتك" شعرة .

في زمنكم يا ابنتي .. أكرر .. تشبثي بحريتك ، بفلسفتك ، بمنطقك ، برؤيتك ، واحذري أن يبرزوا لك أشكالا فلسفية ومنطقية مخادعة كدمج عالم الدين بعالم الإنسان فقط ليمرروا آلهتهم إلى السماء ليستولوا على أفكارك باسم الرب ويقضوا على اختيارك وانحيازك الفطري للفضيلة من أجل انحيازهم الفطري للرذيلة .

احذري أن يقنعوك بنظرياتهم المخادعة القائمة على عبارات واضحة مكررة ومكذوبة ، تذكري يا صغيرتي أن حتى أكثر النظريات شهرة -أياً كانت النظريات - القائمة على معالم واضحة تعاني من الاضطراب والتذبذب في الكثير من أجزائها.

صدقيني يا ريّان الإيمان بالحقيقة يبدأ حين يبدأ الشك في كل الحقائق . والحرية تبدأ حين يستيقظ الإنسان من سباته العقلي ليستخدم نشاطه الفكري في مختلف الأصعدة دون وصي أو وسيط.

لا بأس يا ابنتي ، أعلم أنك الآن ربّما ترثين لحالي وتقولين –رحم الله والدي- كان مكرهاً أن يقوم بأشياء لا يحبها وأنه ربما حقق مقولة جورج واشنطن : مثل الدابة البكماء التي تقاد إلى المسلخ .

في الحقيقة يا طفلتي لم أقم بأشياء لا أحبها ولم يقدني أحد إلى المسلخ . لذا ابتسمي ودعيني أقول لك : حين رأيتهم يحملون أكياسا بلاستيكية لخنق "حريتي" وسيوفاً "عنترية" لنحر إرادتي وماسحات صخرية لمسح فكرتي فعلت كما تفعل الأجسام في الفيزياء حين تسقط حرة .

آثرت السقوط حراً في مكان ٍ أخر يا صغيرتي . فلعنة "الحرية يا ابنتي " كما يقول سارتر "ترقد على الإنسان شاء هذا أم أبى" .

وأنا شئت منذ البدء أن تحل لعنتها علىّ راضياً حتى لا أرغم في المستقبل على التعايش مع حق مطلق فقط لأن الحكومة العربية قررت تحت الضغط "الدولي" أن تمنحني إياه .

ليست هناك تعليقات: