الخميس، 22 مارس 2012

إلى صديقتي




صديقتي الطيبة ، لا أخفيك سرا بأنني لم أر ما كتبته لي في مدونتك إلا الآن ، الغريب أني كنت أسأل نفسي عن الدافع الخفيّ الذي جعلني أتحول إلى باحثٍ بوليسي عن "مدونتك" عبر محركات البحث । لم أكن أعرف السبب । الآن فقط عرفت .



الأحرف التي نقشتها في مدونتك لي قد وصلتني بطريقتها السرمديّة والخفيّة والغيبيّة ، حثتني على المجيء دفعتني إلى محرابك دون أن أعلم أنك في الأصل قرأتي وكتبتي آيات و كلمات حافلة بهذا الخالد الذي يسكنني ।



لن أكون متسرعا في صياغة لغة الأرواح إذا ما قلت كما قال سيد الرسل " الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف " ।



صديقتي رداً على " إلى خالد العلوي" أود أولا أن أبعد عن كاهلك ثقل الاعتذار والألقاب ليست إلا وساما يمنح للحمقى । لست أستاذا ولا كاتبا ولا أديبا وأحسنت ِ بقولك " لا أراك وفق تلك المسميات" الأمر عندي يتجاوز هذا الفرز والتصنيف فأنا أعيش حالة فريدة من حالات الاكتشاف المدهش لهذه القارة المجهولة التي تسكن خالد والتي تجعله كل يوم يتجاوز كل تلك المسميات التي يسجلها الفرد البشري عنه انطلاقا من ذاكرته الـ مثقوبة أو انطلاقا من أصباغ الحياة الاجتماعية التي تصبغنا بألوان ٍ عن نفسي لا أحبها ولا أشتهيها .



عطر .. من النادر جدا أن يضع أحدا أصابعه على المشروع الذي أحمله بداخلي فالكل يراني وفق ذلك الفرز الغبي وتلك المسميات العقيمة لكنك تجاوزتي كل ذلك ووقفتي على المشروع العظيم الذي بدأ يتلاشى وينتحر ويقتل نفسه بدءا من ذلك التاريخ المتعدد الأصوات .



قلتها سابقاً وأكررها الآن مشروعي أن أضع حجرا على همي وألمي لأجعل الناس تصعد عليه لتصل إلى سماء ٍ عظيمة تلاشت اسمها " الإنسان।



والحياة ॥ حياة الإنسان .. حقا يا عطر تستحق أن نحتفي بها ولو قليلا بل وأن نرشقها بخمس عشر سنة إن أحببتِ من السعادة المكتوبة ليمر عليها فيما بعد الحزن بكل إرثه الاستقراطي وهو ذليل وخاضع ।



وأنا هنا أؤكد أمام جنابك أنني لا أسأل عن الدافع الذي دفعك للكتابة لي بطريقةٍ جنائية أو حسب طريقة الشعراء والأدباء لأني سبّاح ماهر يجيد لغة الماء ويجيد ترجمة الأحرف ويفهم جيدا لغة الروح التي تحدّث بها كل حرف قد سجلّته في رسالتك।



لست المتنبي لأقول أنا صخرة الوادي وإذا ما زوحمت فإنني الجوزاء ، أنا صخرة الوادي إن رأيت من حولي يعاني من آلام الطين وأنا الجوزاء إن رأيت من حولي زحل ، أنا إن كنت تسألين كيف أصبحت شجاعا بهذا القدر لأتخلى عن حياة وأرتدي غيرها في وطن أخر يسرني أن أعيد عليك ما دونته الذاكرة عن سيرتي الأولى ।





اعترف أمامك أنني لم أكن أشبه قريتي في شيء بل اعترف أنني لم أشبه تلك السجلات التي تخزنها عائلتي في شيء لم تكن الشائعات ولا المخيال الاجتماعي ولا التراث الواسع الشهرة يستهويني وكنت أفكر حينها كيف لهذا العقل الذي أحمله أن يترك جميع الأشياء من حوله دون تفسير منطقي ودون أن يتوقف عندها، كيف أستطيع أن أصبح مثلهم لا أفكر في الحقائق التي أزاحتها المجاميع البشرية الغفيرة في القرية عن الشمس ؟ لماذا كنت أراها رغم كل ذلك الماراثون الخرافي الذي عاشوا فيه ؟ لماذا كانت والدتي أطال الله في عمرها تعتقد أني مجنون وأشقائي يروني معتوه يتحدث بلغة الأساطير وقريتي تنظر إلىّ باعتباري خارجا عن قانونها وإني لست أكثر من عاص وعاق يحاول أن يصيب الشهرة من باب " خالف تعرف" ।



هل هكذا كنت أنا ؟



رفضت ولا زلت أرفض تلك الصورة التي كانوا يحاولون إجباري على العيش بداخل بروازها وفق معطيات وملامح وتقاسيم لا تشبهني في شيء ।



لماذا ألبس وجها ليس وجهي وشكلا ليس شكلي وعقلا ليس عقلي وحياة ليست حياتي، لماذا علىّ أن أصبح آلة بشرية تردد ما يلقونه على مسامعها من تعليمات دون أن يكون لها حق الاعتراض أو الاختيار؟ ।



نعم كنت غريباً في نظر المجاميع البشرية من حولي ونعم كانت الغربة تستوطنني منذ البدء وتتضخم بداخلي كل يوم وكان لتلك الغربة صبغة فريدة من نوعها جعلتني أشك في جميع الأشياء ولا أسلّم عقلي وروحي لإغراءات اللذة ووهم التراث وسلطة القبيلة أو قبول التعايش مع شر لا بد منه ।



أتذكر الآن مثلا أنني أضربت عن العمل لأكثر من سنتين متحملا كل العبارات المؤذية والسلبية حتى حين أجبرت أن أخوض اختبارات العمل من أجل العمل فقط أسقطت نفسي قاصدا متعمدا في جميع الاختبارات وفي كل مكان اجبروني على الذهاب إليه فالعمل عندي ليس نقودا فقط ولن أعمل بطبيعة الحال عملا لا أرى نفسي فيه ولا أحبه من أجل حفنة مال حتى حين أرغمت بعد ذلك على الذهاب إلى إحدى الشركات بعد إلحاح شديد من إسرتي وقفت في يومي الأول لأرى المكان من حولي تفحصته جيدا وراقبت الأوجه والجثث والصور المتحركة وشاهدت التمييز والعنصرية وحب الإذلال وقطعا رفضت أن أهين شخصا كريما في نفسي ولهذا حين جاء دوري لأوقع على سجل الحضور رميت القلم وخرجت مهرولا إلى أقرب سيارة أجرة تقلني من مسقط إلى قريتي । لماذا ؟ لأنني مؤمن أنني لن أعيش أكثر من مرة لأعيش حياة ليست حياتي واختيارا ليس اختياري .



لم أستطع أن أكذب على نفسي أبدا وأصدق الكذبة كما فعلوا فالأسطورة التي يتداولونها ليست أسطورتي والفكرة التي يشيعونها ليست فكرتي كان من الصعب على أن أستعير أصابع الآخرين لأكتب أسطورة حياتي وأفكار ذاتي أو أن أتحول من كائن بشري إلى كائن حجري لهذا تحليت بالصبر مجددا وتلقيت نبالهم ورماحهم ( ماجن ، غبي، وضيع ، عبثي ، مقيت ) دون أن يهتز لي جفن والحديث يطول في هذا المقام يا عطر لكني في المحصلة اخترت حياتي وسلكت مساري وشابهت نفسي وفكري حتى في اللغة التي أكتب وأتحدث بها ।



نعم لقد فعلتها حين آمنت بأني سأجد خلاصا لهذه الروح من إطروحات الحجر وثقافة التراث التي ستتلفني مبكرا إن قبعت في مكاني هناك وعليه حملت رؤيتي وفكري وسلوكي وحقيبتي على ظهري ووقفت أمام القرية قائلا : سأرحل . ورحلت .

اليوم : ) أثبت للجميع للأسرة وللقرية أني نجحت وأن أفكاري لم تكن عبثية ولا ماجنة ولا فظة وأن ما أردته قد نلته وما سعيت خلفه قد طلته وأني لم أكن واهما يعاني من قصور عقلي أو مجنون يركض خلف ما لا يعقل .
بحياتي لم أكن مدعي ولن أكون ولست مكابرا ولن أكون ॥ أنا .. هو .. أنا .. بكل بساطة طينة بشرية عطست ثم قالت " الحمدلله" فأمن الله عليها بكرمه।



عطر .. تنفسي طينتك كما هي ففيها الدواء واكتبي حتى التقيؤ وشاهدي كيف ستصبح لغتك أنشودة الأرض وطهر السماء وسحر الطبيعة وراقبيها حين ستحاصر الضياع وتضربه بمطرقات اليقين بـ " الأنا " التي تسكنك.



أخوك.

هناك تعليق واحد:

عِطْرٌ حَالِمْ يقول...

خالد . .
أقرأك وأنا على سرير الطمأنينة الناعم . .
تلفني (ملاءات) الرضى الوفيرة . .
و أتنفس بسكينة وأقول بخشوع "الحمدلله" !
:
أتعلم يا خالد ما يميزك؟
أنك تسمع لذاتك . . ل"أناك" التي تسكتك .
وتؤمن بك جدا . .
لذلك أنت واضح لنفسك كوضوح الشمس!
ربما ما يفتقر إليه الكل هو تجاهلهم للصوت الذي بداخلهم
النور الذي ينير أعماقهم . .
ويحاولون قصرا إسكات الصوت وإطفاء النور
حتى يعيشون بذات خرساء في ظلمة دواخلهم
فيبقون كمن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح!
كم أسأل نفسي يا خالد . . متى الخلاص!
/
سأكتب لك كثيرا.