الأربعاء، 29 فبراير 2012

لا تصدّقوا المرآة


غريب أن تنظر إلى نفسك في المرآة كل صباح وتعتقد أنك تنظر إلى نفس الصورة التي نظرت إليها بالأمس، تعتقد أن هذا هو أنت وأن شيئاً فيك لم يتغير.

الأصدقاء الأحباء الأعزاء الزملاء الأقرباء أيضا ينظرون إلينا بنظرة سطحية كنظرتنا لأنفسنا في المرآة ، يعتقدون أننا لم نتغير حتى وإن مرت سنوات طويلة على آخر لقاء جمعنا بهم يعتقدون أن التغيير الوحيد الذي أصابنا في الوزن ربما أو لون الشعر دون أن ينظروا إلى ذواتنا التي تتغير في كل لحظة .

هل تكذب المرآة ؟ هل يكذب الناس ؟ أم نكذب على أنفسنا نحن؟ أم أن علينا أن نطلب من الآخرين قبل أن يصيحوا حين يرونا : "لم أرك منذ زمن بعيد لكنك لم تتغير أبدا " أن يكفوا عن ترديد مثل هذه العبارة السخيفة وأن ينظروا إلى ما لم تتمكن العين عن رؤيته ليعلموا أننا قد تغيرنا فعلاً ؟

المرآة لا تفعل شيئا أكثر من أنها تعكس صورة من ينظر إليها وكثر هم المارون عليها لتعكس لهم صورهم وأشكالهم الطينية ربما لأنهم يريدون أن يقنعوا أنفسهم أنهم لا زالوا هم لم يتغيروا وأن هذا الوجه الذي رأوه بالأمس هو نفس الوجه الذي رأوه صباح اليوم . هل لأنهم يخشون التغيير يفعلون ذلك ؟ أم لأنهم لا يريدوا أن يشاهدوا الصورة الحقيقية التي بدوا عليها من الداخل ؟

المرآة التي نظر إليها وجهي هذا الصباح اخبرتني أنني لست أنا ، لست الذي نظر إليها يوم أمس بل إنني واثق أنني لست من نظر إليها أيضاً قبل أمس فأنا على يقين أنني أتغيّر في كل دقيقة أنفقها من هذا الوقت الجاري والمتدفق أمامي كنهر سريالي .

كل يوم أنظر فيه إلى نفسي أتأكد أني مختلف عن هذه الصورة التي أراها وإن الشخص الذي بداخلي عميق وبعيد وفي مكان سحيق ٍ في ذاتي لا يمكن لأي مرآة في الدنيا أن تعكس صورته لهذا لم أعد اعبأ بما تحمله المرآة من صور ٍ ومن أشكال ٍ لي أو لغيري فهمّي الوحيد الآن أن أواصل رحلتي التي امتدت لثلاثين عاماً في الاقتراب من ذلك البعيد ومحاولة العثور عليه وانتشاله والتوحد معه حتى أصبح "هو" ويصبح "أنا".

كم هي شاقة ومتعبة وأليمة رحلة البحث عن "الأنا" خصوصا إذا كانت الملذات تدفعك دفعاً لأن تكون شخصاً آخر غيرك ، إذا كان من حولك يجبرك أن تعيش وفق اهواءه وقوانينه ومزاجه ، إذا كانت كلمات المديح والثناء التي تسمعها من حولك تجعلك تعتقد أنك أعلى مقاماً ومكاناً من الشخص الذي بداخلك وعليه تظن أنك طاووساً آخر غير الطاووس الذي بحوزتك؟

كم هو مؤلم أن تكتشف فجأة أنك لست إلا مغفلاً لعبت به أصابع الآخرين وحركته كما لو أنها تحرك أحجار شطرنج وأن كل الذي فعلته في حياتك التي مضت ليس أكثر من حياةٍ قررها لك غيرك وأنك ذهبت وعدت ورفعت وأنزلت وشيّدت وهدمت ليس لأنك تريد البناء والهدم بل لأن الذين من حولك أرادوا ذلك ؟

كيف سيكون وقع الصدمة على نفسك حين ستعلم وأنت في آخر عمرك أنك انفقت عمراً طويلاً لم تكن فيه "أنت" وأن تلك الصورة التي تراها في المرآة كل صباح هي ليست صورتك ؟ كيف ستشعر حين ستفاجأ بأن وظيفتك التي اخترتها والشريك الذي شاركته حياتك والهوايات التي مارستها والواجبات التي نفذتها وكل شيء ٍ .. كل شيء فعلته وقمت به لم يكن أكثر من إملاء ٍمن الآخرين عليك وأنك في الأصل لم تر على الإطلاق صورتك في المرآة بل رأيت صوراً تعكس لك حياة الآخرين وميولهم وجنونهم وطموحهم وقرارهم وخيارهم فعشت ذلك جميعاً معتقداً بأن كل ذلك "أنت"!

خذها مني : من السهل أن تقنع من حولك أن هذا المخلوق السطحي الذي عكسته المرآة هو "أنت" لكن من الصعب أن تقنع المخلوق الذي يغوص عميقاً بداخلك أنه كذلك.



ليست هناك تعليقات: