الثلاثاء، 24 أبريل 2012

في خفايا اللاوعي

كانت دائما تنتظرني في خفايا اللاوعي وتصر أن تبقى في أوعيتي الدموية اليوم باتت ترفض أن تتحد مع قطرات دمي وأن تضع جبهتها على أرض قلبي وتصلّي .. اليوم وكأنها تتبع متاهة تتجول في النية لا تمكنها من إنجاز أي مهمة بشكل متقن ..!!!





كانت عندما يبدأ قلبي بالعرض والتمثيل والتجسد والتلقائية تقف في أول الطابور لتراني وأنا أقول كل أقوال السمو واصرّح بكل تصريحات النمو في الحب .. اليوم باتت لا تتمعن في أدائي ولا يلفت نظرها مستوى حبي الجنوني .. وكأنها سمكة بلهاء لا تحسن السباحة ولا تحسن استخدام الخياشيم مثلي ...!



كانت عندما أتحول إلى قطار ... تتحوّل إلى محطات لتستقبلني ... وكانت حين أحمل حقيبتي تفرض نفسها كقفل على الحقيبة .. واليوم بت أتنقل من محطة إلى محطة ولا أجدها ..وأحمل حقيبتي ولا أقفلها ... وأبحث عنها ولا أجدها إلا في طابور المودّعين الأخير .. وكأنها تريد من فكرة إلغاء العالم أن تهاجمني ...؟!!





كانت تتزلج في جبالي الصدريّة كل حين وكل لحظة .. وكنت أجدها عند كل مسام ٍ وشريان .. اليوم صارت تتزلج بأسلوب يفتقد التركيز ويفتقد الثبات .. وبت أشعر في كثير ٍ من الأحيان أنني لست في حالتي الصحيحة ولست في مستواي المعهود وليست هذه هي من كانت تنشر الطبيعة بداخلي .. وتنشر الأشجار والعصافير ورذاذ الأمواج .. هنالك شيء قد ضاع بيننا ..وهذا الشيء هو من يجعلني الشعر أنني بت نائيا ...!





كانت تتخذ مني صومعة تلجأ إليها هي ونفسها وأنا ... وكانت تحتفظ بمفتاح الصومعة عندي ... اليوم لم تعد تسمح لأحد بدخول الصومعة ,, ولا تسمح لأحد أن يحفظ المفتاح ... باتت الصومعة اليوم مخصصة لها وحدها دون أن أكون رمزا فيها ولا نقش ...!!!





كانت تخفيني في قلبها ورحمها ودمّها وتصفني بالشيخ الباذخ الطفولة ... وبأني أبنها وحبيبها وبطنها وسطحها .. اليوم بت أشعر وكأن الوصف يريد أن يقول لي أنني بت أشبه المصابيح القديمة .. والحارات القديمة .. والشيخ الباذخ بالكهولة والخشب ...!!



كانت ترسمني على كل الجدران .. على جدار القلب .. والشريان .. والضلع ... والأوردة .. والأربطة ... وكانت تعتكف ساعات طوال لتشاهد صورتي المرسومة .. اليوم باتت تلطخ الصورة بألوان رخيصة .. ولا تهتم بأن تشاهدها وتراها ... وباتت مشغولة بهيئتها دون هيئتي .. وبنفسها دون نفسي وجعلتني لوحدي على الجدران أشبه صورتي البائسة التي أخذت هيئة من لا هيئة له ... والتي تنتظر خلاص من لا خلاص له ...!





كانت تحملني في قلبها وتجدني في كل مكان .. وكنت أتجول فيها غابات وجبال ووديان وسهول وواحات .. وكنت أشعر وهي معي أنني ملاك ٌ وقع من السماء .. أو وردة بيضاء سقطت من الجنة ... اليوم بت أشعر أنني انتهيت في شكل صخرة سوداء .. أو بت كقربان ٍ لنار حبي التي تأكلني كل لحظة ...!







كانت تنقشني على يديها .. وتتحنّا باسمي .. وتنحت اسمي على ورقة القلب .. كانت تعطيني الانطباع الكامل بالحنان والحب والاهتمام ... كانت تجعلني شعارها وحياتها ومبدأها وجوهرها ... ومسؤوليتها البحتة .. اليوم بت في الوضع الفرد ... لوحدي ... بعيدا عن النقش والحنّا والنحت والانطباع والمسؤولية ... وبت أشعر كما لو أنني موجود ولكن في قبر ....!!!







كانت هي التعويض عن سنين الألم .. وسنين الحرمان .. وسنين الجوع .. وسنين الذل ... وكانت النعمة الربانية التي جعلتني أحفر لأحزاني خندق وأرميها فيه .. اليوم بت أشعر وكأن التعويض فاتني ... وأن القطار فاتني ... وأن النعمة الربّانية صعدت إلى السماء مرة أخرى ....!!





كانت هي البلدة الوحيدة التي أحببتها .. وهي المحطة الوحيدة التي وقفت عليها .. وهي القصيدة الوحيدة التي ما سأمت من كتابتها وحفظها .. وكانت دائما تجعلني أشعر أنني الأمير والسيد والرجل الوحيد الذي قطع دابر الأيام والساعات والدقائق والثواني والضجر ... كانت دائما ما تجعلني أشعر أنني أساس المجتمع وأساس الأسرة وأساس الإنسانية وأساس عالم أكثر إبداع وجمالية .. اليوم بت أشعر وكأنها تحاول أن تجعل بيني وبينها ألف حجاب ... لتجعلني أرتد بسرعة إلى عدة قرون وأخرج من حالتي الفطرية ...!





كانت خالية من كل ليلة قديمة ,, وخالية من كل موجات ٍ سقيمة .. وخالية من كل صحراء ٍ لئيمة ... وكنت أتراكض إليها كل يوم ٍ بكل حب وكل عطش وكل شوق وكل سماء لأروي حبي واسقي عطشي واسكن سمائي ... اليوم بت أشعر وكأنني تزاحمت بالجمال والبغال والبهائم وكأني بت أنافس الحمير في النهيق ...........!!!





كانت تنقلني كيفما شاءت من بلاد الاغريق إلى بلادها .. وتسافر بي على متن حبها إلى عالم ٍ أكثر فطرة مما عليه نحن الآن ... اليوم بت أشعر أني لا أسافر إلى إلا الصيدليات والليالي الموحشة ودموع اليتامى ...ونباح الكلاب .........!





كانت تنبت بداخلي بوفرة ٍ وخضرة ... وتوزع نوافيرها وينابيعها بداخلي بوفرة لتسقي واحاتي الماء .. وكنت أشعر أني أكبر وأتحول إلى أشجار خوخ ومشمش وتين ..وكانت ترفرف بداخلي بجميع طيورها حتى للحظة أتصور أني بت مدينة طيور كلها تلبس الريش الأبيض والأحمر لون السلام والحب ... اليوم بت أشعر أنها تتهيأ لتبني بداخلي سكة حديد لتسافر منّي على أول قطار ........!!!!



كانت تعوضني عن فقدان الجاذبية وعن فقدان الاتزان وعن الطائرات والصواريخ والسفن والنقص .. وكانت تدق الطبول من أجلي وترقص على وقعها من أجلي وتحمل الحب وتطلقه بصوتها الموسيقي من أجلي وكانت تصرخ بشراسة من أجلي ... وتجعل نبضاتها ترقص من أجلي .. وتجعل دمّها يغنّي من أجلي ... وكانت تتكسر كالزجاج من أجلي .. وتنساب كالماء من أجلي .. اليوم باتت تهديني المشاهد القصيرة .. والكلمات القصيرة والأوقات القصيرة والمكالمات القصيرة ... لتجعلني أشبه قلعة محاطة بكثافة ٍ هائلة الألم والنحيب ....!!!





كانت تحفر قلبي حفرا لتلقي فيه اسمها ... و تبني لنفسها قصرا لتلقي فيه نبضها .. كانت تنام في رمشي .. وتستحم في دمّي ... وتأكل من عشب صدري ... وتتسلى بوعائي الدموي ... وتركض في ساحات عمقي كغزال شارد .. كانت تؤذن بالحب في مسامي .. وتصلّي عند باب شرياني ... وتدعي الله أن نلتقي بلساني ... كانت تأخذ شكل فمي حين تريد أن تتكلم ...! اليوم بت أشعر أنني غرفة فسيحة الظلام ... وثيرة الحزن ... باذخة الوحدة ... وكأنها تدفعني أن أدفع نفسي من على قمة قلب لأسقط في نبض ٍ ميت ....!!!




كانت تتزايد حبا وتتزايد شوقا وتتزايد حنانا عند كل خاطر ٍ يحملني إليها ... وكانت تشعر أني ملخص تجربتها العاطفية .. وأني أسوار حبها .. ولحظات شوقها ... وأطفال حنانها ... كانت مدينة عربية باذخة الكرم .. تعرف كيف تستقبل هذا العربي الذي لجأ إليها ... وكنت أشعر بقيمة أن أغرس في سهلها الفسيح بساتين من أوركيدة .., كنت أشعر بقيمة أن أحيط بوابتها العظيمة بأربعة أعوام من الإنسانية والحب ... اليوم بت أشعر أن المدينة تخلّت عن عاداتها القديمة ... وبدلت الكرم بالبخل وبدلت الأوركيد بالشوك وبدلت اعوام الإنسانية والحب بالتهاب في المعدة والأمعاء ...

...!!

كانت دائما تعيش بين عواطفي وأحاسيسي ودفاتري وتاريخي ... وكانت لا تتحرك ولا تنساق وراء شيء ليس فيه أنا ... اليوم باتت تسقط تحت كل تأثير ... وتذهب مع كل كتاب ... وتعيش بين أي شعور ... وتهتم في أي تاريخ ... اليوم بت أشعر كأني أرقد في لا مبالاتها ورحت في سبات ٍ عميق ....!!!



كانت تظل راكضة عبر كل الحواجز لتصل إلى ّ ... وكانت .... كانت تعرفني بما فيه الكفاية .. أكثر من الحكومة .. وأكثر من المخابرات .. وأكثر من مراصد أمريكا ... اليوم بت أشعر أني أصبحت عاديا جدا ... لم أعد أشعر أني يوليوس قيصر .. ولم أعد أشعر أني روميو ولم أشعر أني قارة جديدة تستحق الكشف والبحث والتمحيص والرصد .. لم أشعر أني بحاجة إلى كولومبوس ليكتشفني .. فبعد أن أصبحت وحيدا بين هذه الجبال والبحار... أصبحت أقبل فكرة تهشيم الجبال والقارات والعالم ....!!!




خاتمة : سأبدأ بتسلق الممر الضيق لعلّي ألقاك صدفة .... مثلي ....!

ليست هناك تعليقات: