الثلاثاء، 26 يونيو 2012

شيخة تقرأ:" ولمن خاف مقام ربه جنتان"



يقولون :  (أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبداً ) .

بعد انتهاء كل شيء ٍ دائماً كنت أصل أنا . بعد أن يصل الموت وينصرف ، بعد أن تعترف الجثة ويسأل منكر ويصلي نكير والمقابر ترتجف ، أصل أنا ، أصل بكل وقاحتي وخطيئتي وعلى شفتي سؤال أحمق : ماذا حدث ؟ وكيف حدث ؟ وأين بدأ الحدث ؟

أحياناً أصل عند النزع الأخير لأمثل دور المنقذ الذي سيخطف البطلة من مقابر الموت ليرميها في مقابر الحياة . نعم أحياناً أصل على هذه الشاكلة لكني حتى في هذه الشاكلة أفشل في إنقاذ السؤال بإجابة شافية تستطيع أن تغيّر الحدث.

تموت حبيبتي في المستشفيات ، تزورها كل السماوات ، تبكي عليها سمّاعة الطبيب وغرفة العمليات روشتة المستشفى وملابس الممرضات ، حتى غرفة حارس الأمن على باب المستشفى تنتحب عليها وتنتخبها سيدة في الجنة وأميرة على الحوريات ، الكل يبكي وينتحب وينتخب حتى دكة غسيل الموتى تبكي عليها وتنتحب وتنتخب ، إلا أنا ؟

أين أنا ؟ أين أنا !!

نعم لا زلت نائماً على سرير ِ الأمنيات ، أرمي النرد على الصدور الناهدات ، أبيع خمر الكلمة واشتري أرداف الكلمات ، وبعد أن انتهى كل شيء ، كل شيء ، ركضت متأخرا كعادتي بسؤال ٍ أعرج : أين حبيبتي ؟ أين حبيبة السماوات ؟

قبل ذلك ، خنتها ، خدعتها ، كذبت عليها ، تاجرت بحبها ، بنيت لها قصرا في الشعر ، لكنها لم تدخله ، كتبت لها رسالة كتبتها حتى السماء لكني كعادتي لم أجد وقتا لأنشرها على العالمين ، لم أعطها الفرصة أبداً أن تكون ملكة في شعري ونبية في رسالتي ، لم أدعها تشبع مني ، نعم لم أدعها تشبع مني أو تأكل مني ، وأنا الذي أكلت فيها كل شيء ، كل شيء ، لحمها وقلبها وحبها وروحها لم أترك لها مني أثراً غير المرض .

ثمّ ماذا ..؟ وصلت متأخراً كعادتي بعد أن أكلها المرض وبعد أن هزم السرطان فيها الدم ، أطلب منها المغفرة ، وأطلب منها أن تسامحني لأني كعادتي لم أكن هناك حين احتاجتني سيفاً لا يخشى المعركة !!

ما أقبحني ، ما أوسخني ، ما أوسخني ، ما أوسخ قلبي ، ما أوسخ صدري ، ما أوسخ حبري ، ما أوسخ شعري ، ما أوسخ اسمي ، ما أوسخ هذا القزم الذي يسكنني ، ما أوسخه لقد ضيّعها وضيعني .

قبل ذلك ، كانت تقول يا خالد السيوف حولي كثر ، المعارك تكرهني ، المؤامرات حولي لا تسر ، الحروب تقتلني ، أوقف رماح أصحابك ، أدفع عني نبال عشيقاتك ، دعني أشعر بالطمأنينة والأمان ، دعني أشعر أني أحببت بشرا لن يتركني دون فضيلة أو يجعلني أخسر وزنا دون قصيدة .

ثمّ ماذا ؟ كعادتي بعد انتهاء كل شيء وصلت ممتطيا فرس الشهامة والشجاعة ، بعد أن صرعتها المعارك وهزمتها الحروب ، جئت أسأل ماذا حدث ؟ بعد أن أكلتها الرماح ولفظتها النبال جئت وفي عيني دمعة وقحة بكل صفاقةٍ وسخافةٍ نزلت وهي تسأل : كيف صرعت ؟ كيف ماتت ؟

بعد ذلك، اختفت ، رحلت ، صفعني ألم غيابها ، ركلتني أقدام فقدانها ، استيقظت متأخراً كعادتي ، فتشت بين الأرواح عن روحها ، بين القلوب عن قلبها ، بين الموتى عن قبرها ، بين الأحياء عن عطرها ، بين النهود عن نهدها ، بين الأرداف عن ردفها ، بين العيون عن رمشها ، بين السحاب عن طيفها ، بين النخيل عن تمرها ، لم أجد إلا بقايا دمى لا تستحق أن تسمى دمى وبقايا شجر لا تستحق أن تسمى شجر وبقايا بشر لا فرق بينهم وبين البقر ، لم أجد حولي بعدها ما يستحق أن يجعلني أشتهي أي لوحة وفنان أي زهرة وبستان أي قلب وإنسان أي إنسي وجان أي لؤلؤ ومرجان ، لم أجد حولي بعدها ما يستحق أن تكتبه القصص أو ترويه الجدّات للصبيان .

بعد ذلك ، وصلت متأخراً كعادتي إلى الإيمان ، نفضت عني الزور، مسحت البهتان ، أطلقت في سماوتي الحور ، ردمت الأحزان ، طردت من صدري النساء وطمرت الوديان ، ركلت من قلبي حب الدنيا وعشق الخلان ، اطفأت ظل الشمس وأحرقت الزمان .

بعد ذلك ، وصلت متأخراً كعادتي إلى المكان ، حيث حدّثتها لأول مرة وهي مختبئة خلف سمّاعة دون أن تنبس بحرف ٍ أو تنبش الكيان ، عزفت الكمان . لكنّها لم تصفق ! لم أسمع إلا موسيقى الصمت تأكل الألحان ، حينها عقرت هيامي وأغلقت المكان .

بعد ذلك ، تيقنت أنني لن أسترجعها أبداً حتى لو اغتسلت في البحر ِ المسجور وتطهرت بماء الجنان .

بعد ذلك ، أصيب جهازي التنفسي بداءٍ في الرئة ، بت أختنق ، لا أنام ، لا أكل ، لا أشرب ، لا يأكلني النسيان ، لا يعزّيني السلوان ، باتت أنفاسي تهرب من رئتي ، ونومي يهرب من عيني ، وطعامي يهرب من معدتي ، وشرابي يهرب من فمي ، باتت كل الأشياء عندي تهرب مني ، حتى أنا ، حتى أنا بت أهرب مني إلى المقابر ِ افتش عنها وموتي يتلو على تقاسيم العمر من مصاحفه :

" والسماء رفعها ووضع الميزان " فأجيب موتي : ( اغفر زلة الإنسان) فيتلو : " ألا تطغوا في الميزان " فأبكي وتبكي معي كل الأحزان نعم ، نعم ، لقد طغيت في الأوزان.

يقرأ الموت " والأرض وضعها للأنام " فاقرأ : اللعنة على شيطاني اللعنة على مارج ٍ من نار ، سامحني يا إلهي العظيم ، سامحني على هذه الآثام، سامحني لأني أكلت الأرض وخنت الأنام .

يقرأ الموت :  "فبأي آلا ربكما تكذبان"  ، فيقرأ صوتي : سبحانك آمنت بكل آلائك وهشّمت كل الأوثان ، يقرأ الموت من مصاحفه : " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " فاقرأ وأنا أبكي على عمر لم يزدان : "يعرف المجرمون بسيماهم " .

اللهم آمنت بجرمي . ثمّ ماذا ؟
اطفأت ظل الحياة ، فتحت القبر ونمت وخلفي صوت شيخة يقرأ : " ولمن خاف مقام ربه جنتان" .
أغمضت عيني رأيتها هناك، رأيتها متكئة على فرشٍ بطائنها من استبرق وجنى الجنتان دان ، فتحت عيني ورأيتني بعيداً عنها أعاني الغواش حيث لا نخل ولا رمان لا خير ولا إحسان ، حيث لا رفرف خضر ولا عبقري حسان .
رأيتني بين الشواظ أشتعل أثما ً وأنزف عمراً لكني لم أكن أتذمر أبداً من سطوة النار على جسدي من بكاء الثأر على جلدي من صراخ العار في عظمي ، لم أكن أشكو أبداً من وجعي ، لم أشكو أبداً من قبضة النيران .

قلت في نفسي : هذا جزاء من يصل متأخراً حين ينتهي كل شيء، من يخسر كل شيء ، من لم يفعل أي شيء ، من لم يكسب أي شيء ، هذا عقاب من كان يظن أنه رب النخيل ورب الفيّ ، من كان يظن أنه حين سيأتي متأخراً سيجد كل الأشياء تنتظره الميت منها والحي .

حتى الآن وأنا أنتظر إشارة السماء بأن أغلق القبر على اسمي واخبو في جسمي وأعيش موتا حان وأطوف بينها وبين حميم ٍ آن، لن أشكو فقط سأجعل ألمي يتلو أمام جنتها بكل ندمه وتوبته وإثمه : "فيؤخذ بالنواصي والأقدام ".

حينها فقط ، حينها ربما سأطلب من الرب أن لا يكافئني على صبري بقاصرات الطرف اللائي لم يطمثهن قبلي إنس ولا جان ، ربّما أيضاً لن أطلب ياقوتاً ومرجان ، لكني أكيد إن فتحت الفردوس لي بابها على  صوت الأذان  بأني سأطلب قلماً لأكتب على بابها اسمك وسأطلب فرشاة لأرسم على جدرانها شكلك ، حينها فقط ، سأقف بعذرٍ يليق بوزنك لأرتل أمامك سورة الرحمن : " فيومئذ ٍ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان " .

ليست هناك تعليقات: