السبت، 30 يونيو 2012

أجيبيهم عني لأني لن أكون هنا

كان ثلاثينياً حين أصيب بداء ٍ في رئة حبره ، كان مزاجياً حتى وهو يتأنق لاستقبال القبر ، كان هوائياً حتى وهو على مشارف السقوط في حفرة الإهمال ، كان يموت ببطء ٍ دون أن تهتز فيه طبلة أو يسقط فيه مزمار، كان يشتهي الإيقاع حتى حين أصبح خارج اللحن وخارج الموسيقى .

كان يجمع كل هذا الوقت لينفقه مرة واحدة حين يغيّبه الزمان ، كان إنسانا لا يشبه المكان كان يشبه العود يشبه الكمان ، كان حين يتحدث تتشابك النجوم وحين يعطس تتحد الغيوم وحين يكح تكح اللغة كل ما عرفته عن مفردات الكيان .

كان يحترق مثل خيام البدو دون أن ينصره ماء القبيلة أو تقاتل من أجله السيوف ، كان يقول أنه مثل الضيوف سيموت لثلاثة أيام ٍ ومن ثمّ سيبعث للألوف كما يسوع حين مزّق الكفن وقاتل الخسوف .

كان يتحدث عن الأمل كأنه الشمس ويحارب اليأس كأنه المستقبل ، كان يهوى انزياح النص وصلاة الكنائس في قلب القس، كان يهوى تتبع الموروث ودراسة المحسوس ، كان يقول أن القديم رجلاً هرطق في الماضي فعلّقوا له المشانق ولهذا اختبئ اليوم في المعروف .

كان يموت ويظل يكتب ، كان يدخن ويظل يكتب ، كان يصنع من دخان موته خرافة تعبدها أمهات الكتب النائمة في خدر الرفوف ، كان لا يشاء الحياة التي شاءته يسير وحيداً منشداً يقول :

كيف يخشى الغريق من البلل أو يخشى القتيل من الملل .

كان حزيناً جداً ليس كحزنه شيء ، كان لا يخاف أن يخسر الدنيا لكنه كان خائفا على الحدائق بعده من سيرعاها من سيرويها من سيهتم بالتوليب من سيمسح على رأس الوردة ، من سيقدّر احساس الجميلة نفرتاري من سيكتبها من سيهواها من سيهدهد على المدّة التي سيقضيها بعيدا عنها هناك حيث السيوف لا زالت منشغلة بحروب الردة .

كان سراً جداّ ليس كسره شيء ، كان لا يخبر أحداً عن موت الريح في صدره ، عن هروب الساعات من عمره ، عن احتراق اللحم في جلده ، عن اشتعال الطين في جسده ، كان يعالج موت الريح بصحة ِ صدرها وهروب الساعات بأيام عمرها واحتراق اللحم بقوة جلدها واشتعال الطين بماء صبرها ، كان لا يخشى أن يصلب فكره حين يموت أو يشنق حرفه كان يخاف فقط أن يبعدوها عن سطره أن يحرقوها في حبره.

كان لا يخاف أن يكفروا بحرف اللام أن يشطبوا حرف النون ، كان يخشى فقط على حرف الشين على حرف الياء على العشق المعلّق في حرف الخاء على الهاء التي آمنت بالماء .

كان لا ينتمي لمعجم المكان لقاموس الزمان ، كان ينتمي إلى ذلك المنزل الذي شيّد في العين الذي تفوح منه رائحة الدمع ورائحة البداوة ورائحة الدين ، إلى ذلك العصير إلى تلك الاصابع التي كتبتنا واحد بعد أن كنا اثنين .

لقد كان وكان وكان ، والآن ماذا بعد أن ارتحلت وبعد أن حطّم أكواخ السعادة وسكن خيمة الوجع ، الآن ماذا سيكون بعد أن اقترب الاسفلت من شوارع صدره واقترب من تلقي الصدمة ، الآن ماذا بعد أن ركبت الصحة سيّارة الاسعاف وتركته وحيداً وسجينا في سجن الدمعة ، الآن ماذا بعد أن أصبح يتوهم الأشياء كأنها ستحدث ويتوهم الأحداث كأنها لم تحدث ، الآن ماذا بعد أن سدد جميع الفواتير إلا واحدة أصروا عليه من في الأرض ومن في السماء أن يدفعها من عمره .

الآن لا شيء ، ليس للمنطق هدف ، ليس للعشق ملف ، ليس للحزن تلف ، ليس في الحرف كلف، ليس لكل شيء ٍ عندي سلف وخلف ، الآن سارتحل للمتاحف مثل التحف ، سأستقيل من اللؤلؤ مثل الصدف ، سأموت عزيزا مثل الشرف ، الآن أو بعد سنتين من الآن أو كما يقول طبيبي مثل النخيل سأقع من أعلى قريباً مثل السعف .

الآن أو بعد سنتين من الآن ، حين يسألوك وهم يحجّون إلى شرائع كلمي ما كل هذا الترف ، أجيبيهم عني لأني لن أكون هنا ولن أكون في الصدف ، قولي كان وكان وكان ، كان كل شيء كان الغايات وكان الهدف ، كان المجلات وكان الصحف ، كان أحلامي الجميلة كان الشغف ، كان آلامي الشديدة كان التلف ، كان منكويا بعشقي لكني لم أسامح العشق ولم أقبل الأسف ، قولي : لم يعش سعيداً أبداً كان مصاباً بالقرف ، لم يمت سعيداً أيضا كان ميتاً دون ترف .

الآن أكون قد ارتحلت من ذاكرة الخلان ومن خارطة الإنسان ، سأرتحل ومعي سجادة سنية وتربة شيعية وقلادة إباظية وشعائر زيدية وسأستقبل المجهول ورحيلي أشبه بخيال قديسة نست أن تأخذ معجزة ريتا معها .

الآن ربّما أيضا قد يكون ولدي يبحث في خارطة العالم عني ، ينقّب في الحنين عني ، يسأل نفسه لماذا تخلّى عني ، لماذا فشلت احلامه الجميله ، لماذا غاب عن فضاء اللحن ، لماذا ترك القصيدة حزينة ، لماذا منذ ذهب أصبحت حياتي عقيمة وأمنياتي جريمة ، ربّما سأرد عليه وربّما أخشى من الفشل أيضا وأقرر أن أتدثر بالصمت وأقطع عن مفرداتي المعنى وأطفئ في معجمي الحروف ، أو ربّما علىّ أن أقول أنني راحل لأنني تعبت من الظلام وقررت أن أشعل الأضواء في الأسفل قليلا وأخبر الموتى عن أسرار الأفول ، سأحدثهم عنك وعنها عن مدائن الفوضى عن قرى لم يزرها الله ولم تعرفها الفصول .

الآن ربّما سأطفى الحرف ، سأمنع السحاب أن يلد بداخله المطر ، ربّما سأعطيه أقراصا تمنع عنه الحمل أو ربّما أعلمه أسراراً تكتم بداخله الفضول ، فقط عليها أن تتذكر وعليك أنت ذلك أيضا حين تكبر وتعرفني أنني لم أكن موسى الذي فرق ببني إسرائيل البحر ، أنني لم أكن أملك أي معجزة أو سحر غيرها وأنني لم أكن أملك صدرا أو ظهر غيرك .



ليست هناك تعليقات: